24‏/10‏/2015

ما بعد أطروحة موت السينما


مقالة: ممدوح شلبى
ما نسميه "المًشاهدة الجماعية للدراما" كظاهرة إنسانية، والتى سبق للمجتمعات إختبارها فى مناسبات كثيرة، حيث تمتلأ صالات السينما والمسارح بجمهور محتشد يتنافس للحصول على تذاكر الدخول، أوشكت على الإنتهاء مُعلنة عن عصر جديد فى تقاليد مشاهدة الدراما يتميز بالإنفرادية حيث تتجمع الأسرة أو أحد أفراد الأسرة لمشاهدة الفيلم أو المسرحية فى غرفته فى المنزل واضعاً فى إعتباره أن أناساً آخرين لا يراهم يُشاهدون هذا الفيلم أيضاً عبر شاشاتهم المنزلية.
 
هذا التغير فى تقاليد المشاهدة أشبة بالتغير الذى حدث للظاهرة نفسها، اقصد "المشاهدة الجماعية للدراما"، فاليونانيون إكتشفوا هذه الظاهرة منذ القرن السابع قبل الميلاد عندما كان الناس يتحلقون حول الديثورامبوس، وهم مجموعة مؤلفة من خمسين من المُنشدين الذين يقودهم رئيس الجوقة حيث يُغنون فقرات أشعار الإلياذة والأوديسيا المُكرسة للإله ديونوسوس- إله الخصب والنماء- والذى يتصادف الإحتفال به مرتين كل عام، ولم يمض وقت طويل حتى تحول الديثورامبوس إلى مسرحيات مكتملة الحرفية مازلنا نشاهدها او نقرأها حتى الآن مثل "أوديب ملكاً" كتراجيديا و "برلمان النساء" ككوميدا.
 
 ومنذ ذلك الحين أصبحت ظاهرة المُشاهدة الجماعية للدراما، ظاهرة إنسانية وأحد الإكتشافات الهامة فى النشاطات الإجتماعية للإنسان، لإنها تحقق دوراً إجتماعياً ودوراً نفسياً، فالإنسان الذى يُشارك فى هذه الظاهرة يتوحد مع باقى المُشاهدين، ويحس بنبضهم وبنوع الإستجابات الفيزيائية لما يُشاهدوه، كأن يضحكوا معاً، أو أن يسود بينهم صمت مُطبق ووجوم تأثرا بما يُشاهدوه.
 
وإذا كانت ظاهرة "المشاهدة الجماعية للدراما" منشأها دينياً، فإنها تجاوزت هذا الأصل الدينى وأصبحت مجرد ظاهرة إجتماعية وثقافية، والآن يحدث تغير فى الظاهرة وإنصراف عنها لصالح ظاهرة جديدة يمكن تسميتها "المشاهدة الجماعية الإفتراضة للدراما" من خلال شاشات التليفزيون وأجهزة الكومبيوتر، حيث يتحقق للإنسان الإستمتاع بالدراما كفن دون التنازل عن ظاهرة "المُشاهدة الجماعية للدراما" لأنها مُتضمنة بشكل غير مباشر.
لكن جماليات الدراما نفسها فيما يتعلق بتوحد المُشاهدين بأبطال الدراما لابد أن تتبدل، وسبق لجان لوك جودار أن أوضح أن مشاهدة الفيلم فى شاشة التليفزيون الصغيرة يُحقق فى حد ذاته المسافية حتى وإن كان الفيلم تقليدياً، تلك المسافية أرسى جمالياتها برتولد بريخت فى نظريته عن المسرح الملحمى، الذى يتخذ تقنيات تستهدف إبعاد المُشاهدين عن التوحد بأبطال العمل الفنى، فى إتجاه مُشاهدين جدد عليهم ان يرقبوا ما يشاهدوه وان يتعاملوا معه بأذهانهم وليس بعواطفهم.
وعندما كتبت سوزان سونتاج مقالتها الشهيرة بعنوان "إضمحلال السينما" أو "موت السينما" فإنها فى الحقيقة كانت تتحدث عن موت ظاهرة "المشاهدة الجماعية للدراما" طبقاً للتغيرات التى طرأت على طقوس المشاهدة الجماعية وإنصراف الجمهور عن الذهاب إلى دور العرض السينما إلى حد ان بلدات كثيرة لم يعد بها دار عرض سينمائى واحد بسبب إنتشار التليفزيون الذى يستطيع أن يعرض الأفلام والمسرحيات على جمهوره فى منازلهم دون أن يتكبدوا مشقة الذهاب إلى دار العرض السينمائى.
فإذا كانت ظاهرة "المشاهدة الجماعية للدراما" قد إنتهت من الناحية العملية فإن الفن السينمائى نفسه لم ينتهى، وإقبال المشاهدين على مشاهدة الأفلام عبر شاشات النليفزيون والكومبيوتر يفوق بمراحل كثيرة ما كانت تطمح له شركات الإنتاج السينمائى، حيث من الممكن ان يشاهد ملايين الناس فيلماً واحداً فى وقت واحد ويتحقق لهم ما كانوا يحققوه إجتماعياً ونفسياً من ظاهرة "المشاهدة الجماعية للدراما" ولكن بصورة غير مباشرة.
ولكن يجب علينا أن نعى جماليات المسافية حتى نستفيد من الوسيط الجديد للظاهرة.